السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تسُرّنا زيارتكم للمدونة، ونسأل الله أن ينفعكم بمحتواها ويزيدكم من فضله

الخميس، 23 أكتوبر 2014

كشكول ٥١: العرف



العرف: من الأدلة المختلف فيها.
والمراد به: ما جرى عليه الناس، أو اعتادوه في قول أو فعل.
وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
- قسم أحال إليه الشرع، أو أقره. وهذا لا خلاف فيه، وعليه تدور القاعدة الفقهية الكبرى (العادة محكمة).
- وقسم غيره الشارع، ولم يرتضه. (وهو كل عرف خالف الشرع، أو جر الضرر).
- وقسم حادث. وهذا ينظر فيه؛
فما خالف الشرع رد.
وما وافق الشرع قبل.
وما لم يوافق أو يخالف؛ فإنه لا مانع من إعماله، إذا كان عرفاً:
- مطردًا.
- عامًا.
- مشهورًا.
- مقارناً لمحله أو قبله، لا بعده.
- ولم يتراض على تركه.
(وهذه شروط العرف).

ودليل العرف: كل آية في القرآن أحيل فيها إلى العرف، كقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. (البقرة:  ٢٢٨). هل حدد الله شيئًا معلومًا، أو قال كم تعطي؟ لم يقل، فقد أحاله إلى العرف، فإذا كان هذا المجتمع عنده أن العادة جرت بألف، هذا المجتمع الآخر العادة جرت بمائة، ولكل مجتمع عادته وعرفه، فلا تحكم على هذا المجتمع بعرف الآخر.
وقوله تعالى: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}. (البقرة:  ٢٣٢)، هل قال كيف يتراضون؟ هل قال: لابد أن يتراضوا بهذه الطريقة؟ لا، فإذا اصطلحوا على طريقة مشى عليها العرف الذي بينهم، المهم أن لا يكون هناك شيء حرام خلاف الشرع، ولذلك يقولون: «الصلح سيد الأحكام»، وهذا من تطبيقات قاعدة (العادة محكمة).
ويقول تعالى أيضًا: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. (البقرة: ٢٣١)، أيضًا هنا في الآية أحال على العرف، لم يقل أمسكها على وصف معين، أمسكها بمعروف أو فارقها بحسب ما جرى عليه العرف.
وقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. [النساء: ١٩] ما قال للرجل من أهل البادية أنت عاشر زوجتك كما يعاشرها الرجل الذي في الحاضرة، فكل أهل جهة بحسب عرفهم.
ومنه قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (المائدة:  ٨٩) لم يبين قدره، فأحال إلى أوسط ما نطعم به أهلنا، قد يكون الواحد طعامه في اليوم رغيف وجبن، في أغلب الأيام هذا طعامه، فالواجب عليه في الإطعام هذا، وقد يكون الواحد طعامه في أوسط ما يطعم به أهله مثلاً أرز ولحم، نقول هذا أوسط ما تطعم به في حقك أنت، وهكذا.

ودليله في الأحاديث:
من ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبته الطويلة في حجة الوداع، قال: «ولهن عليكم رزقهن، وكسوتهن بالمعروف» (أخرجه مسلم في (كتاب الحج)، باب صفة حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حديث (١٢١٨)، قال: «ولهن» أي: للنساء «عليكم» أيها الأزواج «رزقهن، وكسوتهن بالمعروف»، ما قال: كل امرأة عليك أن ترزقها مثل ما يرزق ذلك الرجل الأمير، أو تكسوها مثل ما يكسوها، لا، كل واحد بحسب العرف، فأحال إلى العرف، لأن العادة محكّمة، يحتكم إليها في مثل هذه الأمور.
ولما جاءت هند بنت عتبة -رضي الله عنها- تشتكي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زوجها أبا سفيان، تقول: يا رسول الله إنه رجل شحيح، يعني لا يعطينا حقنا، فقال لها الرسول -عليه الصلاة والسلام-: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف». (أخرجه البخاري في (كتاب البيوع)، باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع، حديث (٢٢١١)، وأخرجه مسلم في (كتاب الأقضية)، باب قضية هند، حديث (١٧١٤).) لم يقل لها خذي وسكت، وأباح لها مال زوجها، لا، بل خذي من مال هذا الرجل بالقدر الذي جرى العرف أن مثلكِ وولدك يكتفي به.

قاعدة: كُلُّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مُطْلَقًا، وَلَا ضَابِطَ لَهُ فِيهِ، وَلَا فِي اللُّغَةِ، يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ.
قاعدة: العادة محكمة. 
قاعدة: المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، إلا إذا خالف الشرع.
قاعدة: المفتي لا يفتي في معاملات أهل بلد إلا إذا عرف عرفهم. والفتوى المبنية على العرف تتغير بتغيره. وما تعارف الناس عليه في البيع والشراء، والتقابض أعتبر. لو اختصم رجلان فقال هذا لهذا: اذهب أنت ابن أمك، فذهب الرجل المسبوب يشتكي يقول هذا قذفني، فإنه رمى أمي بأنها زانية، فهذه اللفظة غير صريحة، فالقاضي هنا –وهذا من فقه الواقع في الفتوى- عليه أن يراعي العرف الذي عليه الساب والمسبوب، فإذا كان من عرف هذا المكان أن هذه الكلمة تعني ابن زنا، فإنه يجلده حد القذف، وإذا لم يجر العرف بأن مثل هذه الكلمة لا تقتضي الرمي بالزنا، فإنه لا يقيم عليه حد القذف.
مثال آخر: لو أن رجلا تخاصم مع رجل من الأشراف (آل البيت) فسبه بأبيه أو جده، فإنه لا يعتبر كافرًا؛ لأنه لا يقال عنه: إنه سب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن العرف جرى أنه لم يقصد بهذا سب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، إنما يقصد سب هذا الشخص بذاته، فانظر كيف راعى العرف.
قاعدة: الكنايات يرجع فيها إلى النية، وإلا رجع إلى العرف، وإلا إلى اللغة.
قاعدة: الألفاظ الواردة في القرآن العظيم، والسنة النبوية، تفسر بمعانيها الشرعية، وتسمى: (الحقيقة الشرعية). فإن لم يوجد فسرت بمعانيها العرفية (عرف زمن التنزيل بما جاء عن الصحابة) وتسمى: (الحقيقة العرفية). فإن لم يوجد فإنه يرجع إلى اللغة. وتسمى: (الحقيقة اللغوية). ومن أمثلة العرف المقارن للخطاب (عرف زمن التشريع) ما أخرجه البخاري (١٥١٠) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: «كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ»، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ، وَالزَّبِيبُ، وَالأَقِطُ، وَالتَّمْرُ».
قاعدة: العرف المعتبر ما قارن اللفظ أو كان قبله، ولا عبرة بالمتأخر عنه.
قاعدة: الأيمان يرجع فيها إلى العرف، وإلا إلى اللغة. «لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ حَنِثَ بِمَا يَعْتَادُهُ أَهْلُ بَلَدِهِ:
فَفِي الْقَاهِرَةِ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِخُبْزِ الْبُرِّ، 
وَفِي طَبَرِسْتَانَ يَنْصَرِفُ إلَى خُبْزِ الْأُرْزِ،
وَفِي زَبِيدَ إلَى خُبْزِ الذُّرَةِ وَالدُّخْنِ.
وَلَوْ أَكَلَ الْحَالِفُ خِلَافَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْخُبْزِ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْقَطَائِفِ إلَّا بِالنِّيَّةِ». ((الأشباه والنظائر)، لابن نجيم، (ص: ٨٣).).
«ولَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا؛ لَمْ يَحْنَثْ بِالسَّمَكِ، وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ لَحْمًا.
أَوْ حلف لَا يَجْلِسُ عَلَى بِسَاطٍ، أَوْ تَحْتَ سَقْفٍ، أَوْ فِي ضَوْءِ سِرَاج، لَمْ يَحْنَثْ بِالْجُلُوسِ عَلَى الْأَرْض وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ بِسَاطًا، وَلَا تَحْت السَّمَاءِ، وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ سَقْفًا، وَلَا فِي الشَّمْس، وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ سِرَاجًا.
أَوْ حلف لَا يَضَعُ رَأْسَهُ عَلَى وَتَدٍ، لَمْ يَحْنَثْ بِوَضْعِهَا عَلَى جَبَلٍ، وإن سماها الله أوتاداً.
أَوْ حلف لَا يَأْكُلُ مَيْتَةً أَوْ دَمًا، لَمْ يَحْنَثْ بِأكل السَّمَكِ أوَالْجَرَادِ وَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ؛
فَقُدِّمَ الْعُرْفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الشَّرْعِ تَسْمِيَةً بِلَا تَعَلُّقِ حُكْمٍ وَتَكْلِيفٍ».
((الأشباه والنظائر)، للسيوطي، (ص: ٩٣)، و(الأشباه والنظائر)، لابن نجيم، ص: (٨٢-٨٣).).

ويظهر أن الذين لم يعتبروا العرف أرادوا:
- مالم تتوفر فيه الشروط،
- أو العرف المخالف للشرع أصلاً.

ومن اعتبره أراد:
- العرف الذي أقره الشرع
أو أحال إليه،
- أو ما توفرت فيه الشروط.

وبهذا يتحرر اعتبار العرف من الأدلة التي يرجع إليها بشرطه.


والله أعلم.