السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تسُرّنا زيارتكم للمدونة، ونسأل الله أن ينفعكم بمحتواها ويزيدكم من فضله

الخميس، 4 ديسمبر 2014

كشكول ٢٤٣: قول الصحابي، من الأدلة المختلف فيها عند الأصوليين



قول الصحابي،

من الأدلة المختلف فيها عند الأصوليين.

ليس بحجة مستقلة، فهو ليس كالقرآن العظيم ولا السنة النبوية، وهذه بدهية شرعية عقدية.
وهو حجة تبعية؛ بمعنى أنه يكون حجة تبعاً لأمور، أو في أحوال معينة، وهي التالية:
1- قول الصحابي في ما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه.
2- قول الصحابي الذي لا مخالف له؛ لأنه إجماع سكوتي.
3- قول الصحابي في تفسير مرويه؛ لأنه أدرى بالمراد به.
4- قول الصحابي في تفسير القرآن الكريم؛ لأنه يبنيه على ما فهمه من الرسول -صلى الله عليه وسلم- في معنى الآية.
5- قول الصحابي في سبب النزول سواء بصيغة صريحة، أم بصيغة غير صريحة.
6- قول الصحابي في ما يسميه علماء التفسير: (قراءة تفسيرية)؛ لأنه على أدنى الأحوال حديث مسند.
7- قول الصحابي في المسائل التي اختلفوا فيها، فإنه حجة في أن لا يخرج عن أقوالهم؛ لأن اختلافهم على هذه الأقوال دليل على أنها لا تحتمل غيرها.
8- قول الصحابي إذا اتفقوا فهو إجماع.

تفسير الصحابي للقرآن العظيم كيف يكون في حكم المرفوع؟

إن قيل: «ألم يختلف الصحابة في تفسير القرآن الكريم، ألا يدخل الرأي والاجتهاد تفسير الصحابة للقرآن العظيم؟».

فالجواب: نعم يدخل تفسيرهم الرأي والاجتهاد، ولكنه مبني على ما فهموه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من معاني القرآن الكريم، وهذا يجعل لتفسيرهم ميزة، وهو أن المعنى الأصلي والقاعدة التي ينطلق منها كلام الصحابي في الآية هي المعنى الذي فهمه من الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
هذا المعنى جعل أهل الحديث يجعلون تفسير الصحابي للقرآن الكريم في حكم المرفوع.
قال ابنُ أبي حاتم في تقدمة كتاب الجرح والتعديل (١/٧): «فأما أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله -عز وجل- لصحبه نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، ونصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقه، فرضيهم له صحابةً، وجعلهم لنا أعلامًا وقدوة، فحفظوا عنه -صلى الله عليه وسلم- ما بلَّغهم عن الله عز وجل، وما سنَّ، وشرع، وحكم، وقضى، وندب، وأمر، ونهى، وحظر، وأدَّب، ووعوه وأتقنوه؛ ففقهوا في الدين. وعلموا أمر الله، ونهيه، ومراده: بمعاينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب، وتأويله، وتلقفهم منه، واستنباطهم عنه؛ فشرفهم الله -عز وجل- بما منَّ عليهم وأكرمهم به، من وضعه إياهم موضع القدوة، فنفى عنهم الشكَّ والكذب، والغلط، والريبة، والغمز، وسمَّاهم (عدول الأمَّة)، فقال -عزَّ ذكرُه- في محكم كتابه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}. (البقرة: من الآية: ١٤٣)، ففسَّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن الله -عزَّ ذكره- قولَه: {وسطًا}، قال: «عدلًا»؛ فكانوا عدول الأمَّة، وأئمة الهدى، وحجج الدين، ونقلة الكتاب والسنة، وندب الله -عز وجل- إلى التمسك بهديهم، والجري على منهاهجم، والسلوك لسبيلهم، والاقتداء بهم، فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}. (النساء: ١١٥)، ووجدنا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قد حضَّ على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، ووجدناه يخاطب أصحابه فيها، منها أن دعا لهم فقال: «نَضّرَ اللَّهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا حَتَّى يُبَلِّغَهَا غَيْرَهُ». وقال -صلى الله عليه وسلم- في خطبته: «فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ». وقال: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ»، ثم تفرَّقت الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- في النواحي، والأمصار، والثغور، وفي فتوح البلدان، والمغازي، والإمارة، والقضاء، والأحكام؛ فبثَّ كل واحد منهم في ناحية، وبالبلد الذي هو به، ما وعاه وحفظه عن رسول -صلى الله عليه وسلم-، وحكموا بحكم الله -عز وجل-، وأمضوا الأمور على ما سنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأفتوا فيما سئلوا عنه مما حضرهم من جواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نظائرها من المسائل، وجرَّدوا أنفسهم (مع تقدمة حسن النية، والقربة إلى الله -تقدس اسمُه-)؛ لتعليم الناس الفرائض، والأحكام، والسنن، والحلال والحرام، حتى قبضهم الله -عز وجل- رضوان الله، ومغفرته، ورحمته عليهم أجمعين» اهـ. تأمل قوله -رحمه الله-: «وعلموا أمر الله، ونهيه، ومراده، بمعاينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب، وتأويله، وتلقفهم منه، واستنباطهم عنه» اهـ. 


قال ابنُ القيِّم -رحمه الله- في كتابه (أعلام الموقعين، (٤/١٥٣).): «ما تقولون في أقوالهم في تفسير القرآن، هل هي حجَّة يجب المصير إليها؟ قيل: لا ريب أن أقوالهم في التفسير أصوبُ من أقوال مَنْ بعدهم. وقد ذهب بعضُ أهل العلم إلى أن تفسيرهم في حكم المرفوع؛ قال أبو عبد الله الحاكم في (مستدركه): «وتفسيرُ الصحابيِّ عندنا في حكم المرفوع». ومرادُه أنه في حكمه في الاستدلال به والاحتجاج، لا أنه إذا قال الصحابي في الآية قولًا، فلنا أن نقول: هذا القول قولُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وله وجه آخر: وهو أن يكون في حكم المرفوع بمعنى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لهم معاني القرآن، وفسَّره لهم، كما وصفه تعالى بقوله: {لتبيِّن للناس ما نزل إليهم}، فبيَّن لهم القرآن بيانًا شافيًا كافيًا، وكان إذا أشكل على أحد منهم معنى سأله عنه، فأوضحه له...» اهـ.

هل تناقض الحاكم -رحمه الله- صاحب المستدرك على الصحيحين؟

وقد نصَّ الحاكم على أن الشيخين يَعُدَّان تفسير الصحابيِّ من قبيل المسند المرفوع)، فقال: «ليعلم طالب هذا العلم: أن تفسير الصحابيَّ الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديثٌ مسندٌ»اهـ(المستدرك (2/645، عقب الحديث رقم: 3075 علوش)).
فإن قيل: اختلف كلام الحاكم حيث قال -رحمه الله- في كتابه «معرفة علوم الحديث»(ص: 148-149 -السلوم، باختصار وتصرُّف يسير.): «ومن الموقوف الذي يُستدلُّ به على أحاديث كثيرة ما [جاء] عن أبي هريرة -رضي الله عنه- في قول الله -عز وجل- : {لوَّاحة للبشر}. (المدَّثِّر:29)، قال : «تَلْقَاهُمْ جَهَنَّمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَلْفَحُهُمْ لَفْحَةً، فَلَا تَتْرُكُ لَحْمًا عَلَى عَظْمٍ إِلَّا وَضَعَتْ عَلَى الْعَرَاقِيبِ». 
قال: وأشباهُ هذا من الموقوفات تعدُّ في تفسير الصحابة. فأمَّا ما نقول في تفسير الصحابي: مسند، فإنما نقوله في غير هذا النوع، فإنه كما [جاء] عن جابر قال: «كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عز وجل-: {نساؤكم حرث لكم} [البقرة: من الآية 223]» قال الحاكم: هذا الحديث وأشباهُه مسندةٌ عن آخرها، وليست بموقوفة، فإن الصحابيَّ الذي شهد الوحي والتنزيل فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا، فإنه حديث مسند»اهـ. فكلامه هذا يبيِّن أن قول الصحابي في التفسير موقوف عليه!
فالجواب: مراد الحاكم بما أورده في كتابه معرفة علوم الحديث، بيانُ ما يدخل في كتب المساند، فإن ما انتهى إلى قول الصحابي في تفسير الآية، هو موقوف سندًا، وما انتهى إلى ذكر الصحابي لسبب نزول، أو أمر حدث في زمن النبيِّ هذا مرفوع سندًا، فيورَد في كتب المساند. 
والشيخان يعُدَّان كل ذلك مسندًا، فهو مرفوع حقيقة أو حكمًا. 
فليس في كلام الحاكم اختلافٌ أو تعارض؛ لأن الجهة منفكَّة؛
ففي كلامه الأول في كتابه (المستدرك) نظرُه إلى معنى ما يجيء عن الصحابي في تفسير القرآن، فهو من المسند (=المرفوع سندًا أو حكمًا).
وفي كلامُه في كتابه (معرفة علوم الحديث) نظرُه إلى كتب المساند (جمع مسند) وطريقة المصنِّفين فيها، فإنها تورد ما انتهى إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- (قولًا أو فعلًا أو تقريرًا)، ولا تورد ما انتهى إلى الصحابيِّ، إلا ما كان في حكم التقرير، وهو ما حدث في زمنه -صلى الله عليه وسلم- كأسباب النزول.
ويؤكِّد هذا أنه أورد أثرًا عن أبي هريرة مما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، وقال: إنه من الموقوف، وعبارته: «ومن الموقوف الذي يُستدَلُّ به على أحاديث كثيرة: ما [جاء] عن أبي هريرة -رضي الله عنه- في قول الله -عز وجل-: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَر} قال: «تَلْقَاهُمْ جَهَنَّمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَلْفَحُهُمْ لَفْحَةً، فَلَا تَتْرُكُ لَحْمًا عَلَى عَظْمٍ إِلَّا وَضَعَتْ عَلَى الْعَرَاقِيبِ». قال: وأشباهُ هذا من الموقوفات تُعدُّ في تفسير الصحابة»اهـ ، فلم يكن مقصوده نفس كلام الصحابي، إنما مقصوده هنا ذكر طريقة التصنيف في كتب المساند. 
وقال ابنُ تيمية -رحمه الله-: «وقد تنازع العلماء في قول الصاحب: نزلت هذه الآية في كذا، هل يجري مجرى المسند كما يذكر السبب الذي أُنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟
فالبخاريُّ يُدخله في المسند، وغيرُهُ لا يدخلُهُ في المسند، وأكثر المساند على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره؛ بخلاف ما إذا ذكر سببًا نزلت عقبه، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند"هـ(مقدمة أصول التفسير مع شرحها لمحمد بازمول: (ص88).).

فلم يتناقض كلام الحاكم -رحمه الله- كما يظهر، والله أعلم.