السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تسُرّنا زيارتكم للمدونة، ونسأل الله أن ينفعكم بمحتواها ويزيدكم من فضله

الثلاثاء، 9 ديسمبر 2014

كشكول ٢٨٣: سد الذرائع


سد الذرائع،

من الأدلة المختلف فيها.

قال ابن تيمية -رحمه الله-: «وَالذَّرِيعَةُ مَا كَانَ وَسِيلَةً وَطَرِيقًا إلَى الشَّيْءِ، لَكِنْ صَارَتْ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةً عَمَّا أَفَضْت إلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ. وَلَوْ تَجَرَّدَتْ عَنْ ذَلِكَ الْإِفْضَاءِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَفْسَدَةٌ، وَلِهَذَا قِيلَ: الذَّرِيعَةُ الْفِعْلُ الَّذِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُبَاحٌ وَهُوَ وَسِيلَةٌ إلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمِ. أَمَّا إذَا أَفْضَتْ إلَى فَسَادٍ لَيْسَ هُوَ فِعْلًا كَإِفْضَاءِ شُرْبِ الْخَمْرِ إلَى السُّكْرِ، وَإِفْضَاءِ الزِّنَا إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ، أَوْ كَانَ الشَّيْءُ نَفْسُهُ فَسَادًا كَالْقَتْلِ وَالظُّلْمِ، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّا نَعْلَمُ إنَّمَا حُرِّمَتْ الْأَشْيَاءُ لِكَوْنِهَا فِي نَفْسِهَا فَسَادًا بِحَيْثُ تَكُونُ ضَرَرًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، أَوْ لِكَوْنِهَا مُفْضِيَةً إلَى فَسَادٍ، بِحَيْثُ تَكُونُ هِيَ فِي نَفْسِهَا فِيهَا مَنْفَعَةٌ، وَهِيَ مُفْضِيَةٌ إلَى ضَرَرٍ أَكْثَرَ مِنْهَا؛ فَتَحْرُمُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفَسَادُ فِعْلَ مَحْظُورٍ سُمِّيَتْ ذَرِيعَةً، وَإِلَّا سُمِّيَتْ سَبَبًا وَمُقْتَضِيًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَشْهُورَةِ.

ثُمَّ هَذِهِ الذَّرَائِعُ إذَا كَانَتْ تُفْضِي إلَى الْمُحَرَّمِ غَالِبًا فَإِنَّهُ يُحَرِّمُهَا مُطْلَقًا.

وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ قَدْ تُفْضِي، وَقَدْ لَا تُفْضِي، لَكِنَّ الطَّبْعَ مُتَقَاضٍ لِإِفْضَائِهَا.

وَأَمَّا إنْ كَانَتْ إنَّمَا تُفْضِي أَحْيَانًا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى هَذَا الْإِفْضَاءِ الْقَلِيلِ، وَإِلَّا حَرَّمَهَا أَيْضًا.

ثُمَّ هَذِهِ الذَّرَائِعُ مِنْهَا مَا يُفْضِي إلَى الْمَكْرُوهِ بِدُونِ قَصْدِ فَاعِلِهَا.

وَمِنْهَا مَا تَكُونُ إبَاحَتُهَا مُفْضِيَةً لِلتَّوَسُّلِ بِهَا إلَى الْمَحَارِمِ . ... ...

وَالْغَرَضُ هُنَا أَنَّ الذَّرَائِعَ حَرَّمَهَا الشَّارِعُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الْمُحَرَّمَ خَشْيَةَ إفْضَائِهَا إلَى الْمُحَرَّمِ، فَإِذَا قَصَدَ بِالشَّيْءِ نَفْسَ الْمُحَرَّمِ كَانَ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ مِنْ الذَّرَائِعِ.

وَبِهَذَا التَّحْرِيرِ يَظْهَرُ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ فِي مَسَائِلِ الْعِينَةِ وَأَمْثَالِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْبَائِعُ الرِّبَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ يَغْلِبُ فِيهَا قَصْدُ الرِّبَا؛ فَيَصِيرُ ذَرِيعَةً، فَيَسُدُّ هَذَا الْبَابَ؛ لِئَلَّا يَتَّخِذَهُ النَّاسُ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا، وَيَقُولُ الْقَائِلُ: لَمْ أَقْصِدْ بِهِ ذَلِكَ، وَلِئَلَّا يَدْعُو الْإِنْسَانُ فِعْلَهُ مَرَّةً إلَى أَنْ يَقْصِدَ مَرَّةً أُخْرَى، وَلِئَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّ جِنْسَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ حَلَالٌ وَلَا يُمَيِّزَ بَيْنَ الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ، وَلِئَلَّا يَفْعَلَهَا الْإِنْسَانُ مَعَ قَصْدٍ خَفِيٍّ يَخْفَى مِنْ نَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ.

وَلِلشَّرِيعَةِ أَسْرَارٌ فِي سَدِّ الْفَسَادِ وَحَسْمِ مَادَّةِ الشَّرِّ، لِعِلْمِ الشَّارِعِ مَا جُبِلتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ، وَبِمَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ مِنْ خَفِيِّ هُدَاهَا الَّذِي لَا يَزَالُ يَسْرِي فِيهَا حَتَّى يَقُودَهَا إلَى الْهَلَكَةِ؛

فَمَنْ تَحَذْلَقَ عَلَى الشَّارِعِ وَاعْتَقَدَ فِي بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ أَنَّهُ إنَّمَا حُرِّمَ لِعِلَّةِ كَذَا، وَتِلْكَ الْعِلَّةُ مَقْصُودَةٌ فِيهِ، فَاسْتَبَاحَهُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ؛ فَهُوَ ظَلُومٌ لِنَفْسِهِ، جَهُولٌ بِأَمْرِ رَبِّهِ، وَهُوَ إنْ نَجَا مِنْ الْكُفْرِ، لَمْ يَنْجُ غَالِبًا مِنْ بِدْعَةٍ، أَوْ فِسْقٍ، أَوْ قِلَّةِ فِقْهٍ فِي الدِّينِ، وَعَدَمِ بَصِيرَةٍ»اهـ(الفتاوى الكبرى لابن تيمية 6/ 172- 174) باختصار).

قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله- (إعلام الموقعين 3/159): «باب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي.

والأمر نوعان:


أحدهما: مقصود لنفسه.

والثاني: وسيلة إلى المقصود.

والنهي نوعان:

أحدهما: ما يكون المنهى عنه مفسدة في نفسه.

والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة؛

فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين»اهـ.

وقال: «لَمَّا كَانَتْ الْمَقَاصِدُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا إلَّا بِأَسْبَابٍ وَطُرُقٍ تُفْضِي إلَيْهَا كَانَتْ طُرُقُهَا وَأَسْبَابُهَا تَابِعَةً لَهَا مُعْتَبَرَةً بِهَا؛

فَوَسَائِلُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَعَاصِي فِي كَرَاهَتِهَا وَالْمَنْعِ مِنْهَا بِحَسَبِ إفْضَائِهَا إلَى غَايَاتِهَا وَارْتِبَاطَاتِهَا بِهَا.

وَوَسَائِلُ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ فِي مَحَبَّتِهَا وَالْإِذْنِ فِيهَا بِحَسَبِ إفْضَائِهَا إلَى غَايَتِهَا؛

فَوَسِيلَةُ الْمَقْصُودِ تَابِعَةٌ لِلْمَقْصُودِ، وَكِلَاهُمَا مَقْصُودٌ، لَكِنَّهُ مَقْصُودٌ قَصْدَ الْغَايَاتِ  وَهِيَ مَقْصُودَةٌ قَصْدَ الْوَسَائِلِ؛

فَإِذَا حَرَّمَ الرَّبُّ تَعَالَى شَيْئًا وَلَهُ طُرُقٌ وَوَسَائِلُ تُفْضِي إلَيْهِ فَإِنَّهُ يُحَرِّمُهَا وَيَمْنَعُ مِنْهَا؛ تَحْقِيقًا لِتَحْرِيمِهِ، وَتَثْبِيتًا لَهُ، وَمَنْعًا أَنْ يُقْرَبَ حِمَاهُ، وَلَوْ أَبَاحَ الْوَسَائِلَ وَالذَّرَائِعَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلتَّحْرِيمِ، وَإِغْرَاءً لِلنُّفُوسِ بِهِ، وَحِكْمَتُهُ تَعَالَى وَعِلْمُهُ يَأْبَى ذَلِكَ كُلَّ الْإِبَاءِ. بَلْ سِيَاسَةُ مُلُوكِ الدُّنْيَا تَأْبَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ إذَا مَنَعَ جُنْدَهُ أَوْ رَعِيَّتَهُ أَوْ أَهْلَ بَيْتِهِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَبَاحَ لَهُمْ الطُّرُقَ وَالْأَسْبَابَ وَالذَّرَائِعَ الْمُوَصِّلَةَ إلَيْهِ لَعُدَّ مُتَنَاقِضًا، وَلَحَصَلَ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَجُنْدِهِ ضِدُّ مَقْصُودِهِ.

وَكَذَلِكَ الْأَطِبَّاءُ إذَا أَرَادُوا حَسْمَ الدَّاءِ مَنَعُوا صَاحِبَهُ مِنْ الطُّرُقِ وَالذَّرَائِعِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَسَدَ عَلَيْهِمْ مَا يَرُومُونَ إصْلَاحَهُ.

فَمَا الظَّنُّ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي هِيَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْكَمَالِ؟

وَمَنْ تَأَمَّلَ مَصَادِرَهَا وَمَوَارِدَهَا؛ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ سَدَّ الذَّرَائِعَ الْمُفْضِيَةَ إلَى الْمَحَارِمِ بِأَنْ حَرَّمَهَا وَنَهَى عَنْهَا.

وَالذَّرِيعَةُ: مَا كَانَ وَسِيلَةً وَطَرِيقًا إلَى الشَّيْءِ.

وَلَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَبْلَ تَقْرِيرِهِ؛ لِيَزُولَ الِالْتِبَاسُ فِيهِ، فَنَقُولُ:

الْفِعْلُ أَوْ الْقَوْلُ الْمُفْضِي إلَى الْمَفْسَدَةِ قِسْمَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ وَضْعُهُ لِلْإِفْضَاءِ إلَيْهَا،  كَشُرْبِ الْمُسْكِرِ الْمُفْضِي إلَى مَفْسَدَةِ السُّكْرِ، وَكَالْقُذُفِ الْمُفْضِي إلَى مَفْسَدَةِ الْفِرْيَةِ، وَالزِّنَا الْمُفْضِي إلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَفَسَادِ الْفِرَاشِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهَذِهِ أَفْعَالٌ وَأَقْوَالٌ وُضِعَتْ مُفْضِيَةً لِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَلَيْسَ لَهَا ظَاهِرٌ غَيْرُهَا.

وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِلْإِفْضَاءِ إلَى أَمْرٍ جَائِزٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ، فَيُتَّخَذَ وَسِيلَةً إلَى الْمُحَرَّمِ إمَّا بِقَصْدِهِ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ؛

فَالْأَوَّلُ كَمَنْ يَعْقِدُ النِّكَاحَ قَاصِدًا بِهِ التَّحْلِيلَ، أَوْ يَعْقِدُ الْبَيْعَ قَاصِدًا بِهِ الرِّبَا، أَوْ يُخَالِعُ قَاصِدًا بِهِ الْحِنْثَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالثَّانِي كَمَنْ يُصَلِّي تَطَوُّعًا بِغَيْرِ سَبَبٍ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، أَوْ يَسُبُّ أَرْبَابَ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، أَوْ يُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ الْقَبْرِ لِلَّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ثُمَّ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ الذَّرَائِعِ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَةُ الْفِعْلِ أَرْجَحَ مِنْ مَفْسَدَتِهِ.

وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةً عَلَى مَصْلَحَتِهِ.

فَهَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: وَسِيلَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِفْضَاءِ إلَى الْمَفْسَدَةِ.

الثَّانِي: وَسِيلَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَاحِ قُصِدَ بِهَا التَّوَسُّلُ إلَى الْمَفْسَدَةِ.

الثَّالِثُ: وَسِيلَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَاحِ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا التَّوَسُّلُ إلَى الْمَفْسَدَةِ لَكِنَّهَا مُفْضِيَةٌ إلَيْهَا غَالِبًا وَمَفْسَدَتُهَا أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَتِهَا.

الرَّابِعُ: وَسِيلَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَاحِ وَقَدْ تُفْضِي إلَى الْمَفْسَدَةِ وَمَصْلَحَتُهَا أَرْجَحُ مِنْ مَفْسَدَتِهَا.

فَمِثَالُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي قَدْ تَقَدَّمَ.

وَمِثَالُ الثَّالِثِ:  الصَّلَاةُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَمَسَبَّةُ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، وَتَزَيُّنُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي زَمَنِ عِدَّتِهَا، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.

وَمِثَالُ الرَّابِعِ: النَّظَرُ إلَى الْمَخْطُوبَةِ، وَالْمُسْتَامَةِ، وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهَا، وَمَنْ يَطَؤُهَا وَيُعَامِلُهَا، وَفِعْلُ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَكَلِمَةُ الْحَقِّ عِنْدَ ذِي سُلْطَانٍ جَائِرٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ بِإِبَاحَةِ هَذَا الْقِسْمِ، أَوْ اسْتِحْبَابِهِ، أَوْ إيجَابِهِ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِ فِي الْمَصْلَحَةِ، وَجَاءَتْ بِالْمَنْعِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَرَاهَةً أَوْ تَحْرِيمًا بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِ فِي الْمَفْسَدَةِ، بَقِيَ النَّظَرُ فِي الْقِسْمَيْنِ الْوَسَطِ: هَلْ هُمَا مِمَّا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِإِبَاحَتِهِمَا أَوْ الْمَنْعِ مِنْهُمَا؟

فَنَقُولُ:

الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ وُجُوهٍ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}؛ فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى سَبَّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ -مَعَ كَوْنِ السَّبِّ غَيْظًا وَحَمِيَّةً لِلَّهِ وَإِهَانَةً لِآلِهَتِهِمْ- لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّهِمْ اللَّهَ تَعَالَى، وَكَانَتْ مَصْلَحَةُ تَرْكِ مَسَبَّتِهِ تَعَالَى أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ سَبِّنَا لِآلِهَتِهِمْ، وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ بَلْ كَالتَّصْرِيحِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْجَائِزِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ سَبَبًا فِي فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}، فَمَنَعَهُنَّ مِنْ الضَّرْبِ بِالْأَرْجُلِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ سَبَبًا إلَى سَمْعِ الرِّجَالِ صَوْتَ الْخَلْخَالِ؛ فَيُثِيرُ ذَلِكَ دَوَاعِيَ الشَّهْوَةِ مِنْهُمْ إلَيْهِنَّ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} الْآيَةَ - أَمَرَ تَعَالَى مَمَالِيكَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُمْ الْحُلُمَ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ دُخُولُهُمْ هَجْمًا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فِيهَا ذَرِيعَةٌ إلَى اطِّلَاعِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَقْتَ إلْقَاءِ ثِيَابِهِمْ عِنْدَ الْقَائِلَةِ وَالنَّوْمِ وَالْيَقِظَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي غَيْرِهَا، وَإِنْ أَمْكَنَ فِي تَرْكِهِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ لِنُدُورِهَا وَقِلَّةِ الْإِفْضَاءِ إلَيْهَا فَجُعِلَتْ كَالْمُقَدَّمَةِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا اُنْظُرْنَا} نَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ -مَعَ قَصْدِهِمْ بِهَا الْخَيْرَ-؛ لِئَلَّا يَكُونَ قَوْلُهُمْ ذَرِيعَةً إلَى التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَخِطَابِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُخَاطِبُونَ بِهَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَقْصِدُونَ بِهَا السَّبَّ، وَيَقْصِدُونَ فَاعِلًا مِنْ الرُّعُونَةِ؛ فَنَهَى الْمُسْلِمُونَ عَنْ قَوْلِهَا؛ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الْمُشَابَهَةِ، وَلِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى أَنْ يَقُولَهَا الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَشَبُّهًا بِالْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُونَ بِهَا غَيْرَ مَا يَقْصِدُهُ الْمُسْلِمُونَ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ:  قَوْله تَعَالَى لِكَلِيمِهِ مُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ: {اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} فَأَمَرَ تَعَالَى أَنْ يُلِينَا الْقَوْلَ لِأَعْظَمِ أَعْدَائِهِ، وَأَشَدِّهِمْ كُفْرًا، وَأَعْتَاهُمْ عَلَيْهِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ إغْلَاظُ الْقَوْلِ لَهُ مَعَ أَنَّهُ حَقِيقٌ بِهِ ذَرِيعَةً إلَى تَنْفِيرِهِ وَعَدَمِ صَبْرِهِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ، فَنَهَاهُمَا عَنْ الْجَائِزِ؛ لِئَلَّا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَكْرَهُ إلَيْهِ تَعَالَى.

الْوَجْه السَّادِسُ:  أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ فِي مَكَّةَ عَنْ الِانْتِصَارِ بِالْيَدِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ انْتِصَارُهُمْ ذَرِيعَةً إلَى وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً مِنْ مَفْسَدَةِ الْإِغْضَاءِ وَاحْتِمَالِ الضَّيْمِ، وَمَصْلَحَةُ حِفْظِ نُفُوسِهِمْ وَدِينِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الِانْتِصَارِ وَالْمُقَابَلَةِ.

الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ؛ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إلَى التَّشَاغُلِ بِالتِّجَارَةِ عَنْ حُضُورِهَا» اهـ.

... وتابع فذكر تسعاً وتسعين وجهاً يدل على سد الذرائع (أعلام الموقعين 3/135- 159)).